(قصص وعبر) آخر كتاب صدر للأديب الإسلامي والقصَّاص الكبير الأستاذ محمد المجذوب، وهو حلقة في سلسلة مباركة يعزم الأستاذ على إصدارها من مجموعة مؤلفات في موضوعات شتى، وقد كان وقوفي على هذا الكتاب مناسبة طيبة للتحدث عن الأستاذ الفاضل وأدبه، وقصصه، وعن كتابه الأخير بالذات، ولعلَّ معرفتي الوثيقة والقديمة بالأستاذ الكريم تجعلني أقدر على الكتابة من غيري في هذا الموضوع.
الأستاذ المجذوب من أبرز أدباء سورية، وممن لهم الشهرة الذائعة في الأوساط الأدبية في العالم العربي، وله العشرات المؤلفات في مختلف الموضوعات، كلٌّ منها له مكانته في مكتبة القارئ العربي، ومؤلَّفات الأستاذ تعالج مختلف القضايا الأدبية والفكرية والاجتماعية في محيط الأمة الإسلامية، وكل ذلك بأسلوب أدبي رائع، وبيان بارع، وفكرة نيرة، وبصيرة نافذة.
والأستاذ شاعر مطبوع وهو في مصاف شعراء الطبقة الأولى في العالم العربي اليوم، فهو على هذا فارس حلبتي النثر والنظم، وللأستاذ ديوان مطبوع وأخرى في طريقها إلى الطبع، والخيط الذي يجمع بين سائر ما كتبه الأستاذ، وما قاله من شعر ونثر هو نبل المقصد، وسمو الفكرة، وجمال الغاية إلى سحر اللفظ، وروعة البيان، وجودة الأسلوب، فمؤلفات الأستاذ على اختلاف مناحيها من قبيل الأدب الموجه الذي تفرض فيه الغاية نفسها على القارئ فرضًا، وتبدو حية بارزة خلف كل عبارة من عبارات الأستاذ، ولا يرد على الأستاذ وطريقته في الكتابة ما يقوله أهل الأدب من أن التقيد في الأدب من عيوب هذا الفن، وأن الأديب لا يعطيك ما عنده من روائع إلا إذا أطلقت له العنان وتركته على سجيته، وأزحت الحدود والقيود من أمامه، وهذا الكلام صحيح من جهة وفاسد من جهة أخرى، أو صحيح من فئة وفاسد من فئة أخرى، صحيح أنَّ الفكرة إذا فُرضت على الأديب فرضًا، وألزم الكتابة فيها تكون قيدًا له، وعيبًا في إنتاجه، ولكن الأديب إذا كان مستهامًا بفكرته التي يكتب لها، مؤمنًا بها، بل لا يملك إلا أن يكتب عنها، فحينئذ لا تكون الفكرة والغاية عيبًا في الأديب، وقيدًا في طاقته، بل يكون الخروج عن هذه الفكرة الأثيرة لدي الكاتب عيبًا فيه وفي إنتاجه؛ لأنه حينئذ يكلَّف الكتابة فيما لا يريد.
وعلى هذا فالأستاذ المجذوب حينما يلتزم الفكرة الإسلامية في كتاباته كلها، ويعالج جميع القضايا التي يتطرق لها من وجهة النظر الإسلامية، وحينما يصرُّ على الكتابة في الموضوعات الأخلاقية النافعة، فإنَّ هذا الالتزام ليس عيبًا في الأستاذ وإنتاجه الأدبي، بل هو ميزته على سائر الأدباء من كتاب عصره؛ لأن الفكرة التي يلتزم بها الأستاذ في كتاباته لم تفرض عليه فرضًا من سلطة عليا تريد له أن يحب هذه الفكرة، ويدندن حولها في الوقت الذي لا يحبها هو أو لا يؤمن بها، بل إن الفكرة الإسلامية التي يتقيد بها الأستاذ في كتاباته - بمعنى ألا تخرج كتاباته عن الخلق الإسلامي، والأدب الإسلامي والقيم الإسلامية - هي (ليلاه) التي هام بها، وخالط حبها بشاشة قلبه، وسرى روحها في روحه، وآمَن بها عقله، وقلبه، ولبَّه، ولو حاول الانفكاك عنها لما استطاع إلى ذلك سبيلًا؛ لأنه لا يرى معنى للحياة بدونها، وإذا كان الأمر كل شيء في حياة الإنسان، فمن العبث الاشتغال بغيره، ولعل أعداء الأدب الموجه صنفٌ من أولئك التافهين الذين يريدون للأدب أن يبقى في وهدته التي تردَّى فيها على أيديهم، ألا وهي وهدة الجنس وحفرة الشهوة والرذيلة، فكل أدب لا يدغدغ غرائز الساقطين من الناس ويداعب شهواتهم الدنيئة، ويستثير فيهم الغرائز الحيوانية، والمعاني البهيمة الهابطة، يجعلونه أدبًا موجهًا مقيدًا قاصرًا، فعلى الأدب عند هؤلاء أن يلزم الفراش فراش الرذيلة؛ حتى يكون أدبًا حرًّا طليقًا مبدعًا، ولكن إن حاول السمو حول فكرة علوية تفتح أمام الإنسان آفاق الحياة الصحيحة، وتربأ بإنسانيته عن هذا السقوط والتردي المشين، فهو يتهم بالقصور والتقيد وتتلمس له العيوب.
وبعد هذا نقول: فإن أدب الشيخ المجذوب موجه ومقيد، وجماله في توجهه وتقيُّده، موجه نحو الإسلام وبالإسلام، ومقيد بنظرته للحياة والكون والإنسان، ولأن يعيش الإنسان لخصائص الخير التي فيه، ولأن يستجيب للمعاني العلوية التي في فطرته، ولأن يلبي أشواق النفحة الربانية في رُوحه، خيرٌ من أن يسقط في حفرة الطين، وأن ينقلب في الحمأ المسنون، وقد يكون من الغريب ومما يتنافى مع اتجاه أدباء هذا العصر - وخاصة كتاب القصة فيه - أن يتجه الأستاذ المجذوب إلى القصة الإسلامية التي يعتبر رائدها بلا منازع، من الغريب في منطق أدباء اليوم أن يتجه الأستاذ إلى القصة الهادفة التي لا ينكر دورها بين وسائل التربية والتوجيه، في الوقت الذي يعكف فيه كتاب القصة على وثن الجنس، ويقصرون كل جهودهم لإثارة الغرائز الأرضية الدنيئة المستكنة في الجيل الساقط الذي يخاطبونه، ويستدرون بمثل ذلك الأدب الرخيص السحت الذي يقتاتون به، ولكن الأستاذ المجذوب نكب عن هذه الطريقة الشائنة، واختطَّ لنفسه طريقًا رشدًا آثر فيه الفضيلة على الرذيلة، وقدَّم فيه المال الحلال على المال الحرام، وفضَّل أن يسلك طريق الحق، ولا يصده عنه قلةُ السالكين، وازورَّ عن طريق الباطل دون أن تغريه كثرة الهالكين، وخاطب في الإنسان عنصر الخير والسمو في فطرته التي عملت قوى الشر مجتمعة على تلويثها، وإطفاء نورها وطمس معالم الحق فيها.
فأدب الأستاذ بجملته - وقصصه بالأخص - نوع من الأدب البنَّاء الهادف، الذي يؤدي دوره في إنارة سبيل القارئ العربي في معترك الحياة في هذه الحقبة العصيبة من حياته، وقصص الأستاذ المجذوب كسائر أدبه تجمع عناصر الجمال التي نراها تنحصر في المعنى الجميل، والمبنى الجميل. ولعل آخر كتب الأستاذ وهو (قصص وعبر)، بجمع بين هذين العنصرين على الوجه الأكمل بالنسبة إلى قصصه؛ وذلك لأن موضوع الكتاب هو القصص القرآني الذي يعتبر بدون ريب ذِروة ما دون باللغة العربية من قصص، وهذا يضمن للكتاب جمال المعنى في أروع صوره، وأما أسلوب الكتاب، فهو خلاصة وحصيلة نصف قرن تقريبًا من الثروة الأدبية التي جمعها الأستاذ، وهذا يضمن له جمال المبنى.
وقد تناول الأستاذ في كتابه هذا جملة كبيرة من قصص القرآن الكريم، وعالجها على الشكل التالي:
أولًا: عرض القصة القرآنية عرضًا إجماليًّا يُبرز أهم معالمها دون الخوض في التفاصيل والجزئيات.
ثانيًا: استنباط العبر والعظات، ومحاولة استخراج المغزى والمرمى والغاية التي سيقت لأجلها القصة.
ثالثًا: تحليل لأسلوب النص القرآني، ونظرات في العبارات التي حملت تلك المعاني الكريمة.
وقد استفاد الأستاذ الكريم من القرآن العظيم كثيرًا في لفظه ومعناه، وهو الذي لازم القرآن وعاش بأجوائه طيلة حياته، وأعانته ملازمة القرآن هذه على أن يغوص في أعماق القصة القرآنية ليستخرج درَّاتها الغالية، وجواهرها الثمينة، وحِكمها البالغة، كما أن ترطب لسانه المستمر بالقرآن صقل ذلك اللسان، وصبغه بصبغة القرآن، فجرى عليه البيان ينساب غضًّا طريًّا، وكذلك تدبر قلبه المستمر له جعل الحكمة تتفجر في جوانبه، والعبرة تسبق إلى فكره، والنور يشرق في بصيرته.
ولقد صاحب التوفيق صاحب الكتاب في خطواته الثلاث في عرض القصة، واستنباط عبرها، وتحليل أسلوبها، وعيب هذا الكتاب هو أن الأستاذ كان مقيدًا بوقت معين محدد يناقش خلاله القصة، وذلك في حلقات إذاعية، الأمر الذي كان كثيرًا ما يجعل الأستاذ يكبح جماح القلم حتى لا يسترسل، وقد اعتذر الأستاذ عن هذا بأن قال: "إن الكتاب هو نموذج لعمل أكبر منه سيتناول القصة القرآنية بالتفصيل الأوفى في الخطوات الثلاث التي ذكرناها ...".
وبعد فإن لدي نماذج كثيرة من الكتاب تبيِّن صورًا من الجمال الذي يعلو صفحاته، ويبدو من خلال عباراته وعبره، ولكني لم أرد أن أقتطع تلك النماذج من موضعها التي سكبت فيها، داعيًا القارئ إلى الوقوف عليها في أماكنها الكثيرة من الكتاب، ولأني أُومِنُ بأن الزهر في الروض أجمل منه في الآنية.
0 تعليقات
نرحب بتعليقاتكم