زينب المحمود
لم يقتصر الوصف عند الشعراء على ما تدركه الأسماع والأبصار، وما تحيط به الجوارح، إذًا لهان الأمر ولضاق الأفق وانحسر الجمال؛ بل توسّع وتعمّق حتى شمل خلجات النفوس، وجسّد المجردات حتى لمسناها، وبلور لنا عالم الأسرار حتى رأيناه جهاراً. وأصعب من التجول في العالم المرئي ومطابقة صوره ومقارنة مشاهده، غوص في كنه النفوس، والتحقيق في نجوى الأرواح، والتنقيب في ذات الصدور، واستخراج الأوصاف منها جميعاً، في مقابلة بيّنة لقوله تعالى: (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) [ص: 37].
ففي عالم الشعراء من هو بنّاء وغوّاص، وشتان بين من يبني المادة من المادة، ومن يغوص في أعماق اللامرئي ليُخرج لنا من درّه الكامن صوراً نراها ونسمعها. فهذا المتنبي يجسّد لنا صورة الموت وهو يقبض أرواح قوم كافور بهجاء لاذع ممتزج بالكوميديا والسخرية، فيقول:
ما يَقبِضُ الموتُ نَفْساً مِن نفوسِهِمُ
إلَّا وفي يَدِهِ مِنْ نَتْنِها عُودُ
من لم يرَ الموت من قبل فلينظر إلى إحدى صوره في بيت المتنبي هذا وهو يمسك بعود لينتزع به أرواحهم كي لا تتسخ يداه، ولينظر إلى صورة أخرى له في مرثية البحتري للمتوكل إذ قال:
صريعٌ تَقاضاهُ السيوفُ حُشاشةً
يجودُ بها والموتُ حُمْرٌ أظافرُهْ
لن ندرك صورة الموت كاملة؛ إنما نجمع أجزاءها من عدسات الشعراء، وها قد أرانا المتوكل كيف جاء الموت بأظافره الحمراء التي هي سيوف القتلة الغادرين، ليتقاضى أمانته التي هي روح المتوكل، الذي جاد ولم يستعصِ بها.
وهذا ما يستطيع الشعر إليه سبيلاً من ذلك العالم المحجوب عن مداركنا، المرفوع عن أدراكنا، يختطف شيئاً من تلك الظلال، وريشة من تلك الأجنحة، وقبساً من تلك النار؛ ليصطلي القرّاء منها، ويستكشفوا مجهولها ويستشرفوا غيبها، ويجلوا كنهها.
0 تعليقات
نرحب بتعليقاتكم